المادة    
قول المصنف رحمه الله: [وقال أبو طالب المكي: أركان الإيمان سبعة] و أبو طالب المكي: هو الإمام المشهور -ولا سيما عند أرباب التصوف- بكتابه: قوت القلوب، وهذا الكتاب هو عمدة الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين، وأكثر ما في الإحياء من كلام جيد فهو مأخوذ من القوت، والقوت على ما فيه من الخلل إلا أنه أقل من الإحياء خطراً وخللاً، وهو مشتمل على بعض البدع، لكنه يخلو مما في الإحياء من الطوام، وتقل فيه الأحاديث الضعيفة والموضوعة مقارنة بـ الإحياء، وقد اعتمد عليه الغزالي ونسج على منواله، وأفاض وأكثر من الروايات والقصص والغرائب والضعاف والموضوعات فكان كتاب الإحياء .
وكان أبو طالب المكي في باب الأسماء والصفات والقدر، وكذلك في باب الإيمان على مذهب أهل السنة والجماعة، لكنه كان ميالاً إلى الصوفية في السلوك فقط، وهو ما يسمى بعلم العبادة والذكر وما أشبه ذلك، أما من حيث الاعتقاد فكان أبو طالب على منهج السلف الصالح، وكتابه قوت القلوب شاهد بذلك؛ فقد أفرد أبو طالب المكي في قوت القلوب فصلاً كاملاً في الحديث عن الإحسان والإيمان والإسلام وما يتفرع عنهما، ورد على المرجئة ونقض كلامهم بكلام جيد، وإن كان عليه بعض المآخذ لكنها مآخذ تغتفر له؛ لأنه قد وقع فيها قبله بعض العلماء كما في مسألة تفسير الإيمان بالإسلام، وهذا ظاهر صنيع الإمام البخاري رحمه الله في تراجمه في الصحيح ؛ أن الإيمان والإسلام شيء واحد، فالقضية قديمة ولا تخرج الإنسان عن مذهب السلف الصالح، والفصل الذي خصصه أبو طالب في قوت القلوب لهذه المسألة هو الفصل الرابع والثلاثون.
  1. توجيه قول أبي طالب في أن أركان الإيمان سبعة

    يقول: [وقال أبو طالب : "أركان الإيمان سبعة، يعني: هذه الخمسة، والإيمان بالقدر، والإيمان بالجنة والنار] فلو قارنا بين كلام أبي طالب وبين حديث جبريل عليه السلام فإنه ذُكر في حديث جبريل ستة أركان: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر؛ لأن القدر مذكور في حديث جبريل، فـأبو طالب المكي ما جاءنا بشيء جديد عندما ذكر القدر، لكن الزيادة والغرابة في الركن السابع الذي هو: (الإيمان بالجنة والنار).
    يقول المصنف: [وهذا حق، والأدلة عليه ثابتة محكمة قطعية" أي: أن أدلة ثبوت الإيمان باليوم الآخر محكمة قطعية، ففي حديث جبريل ذكر أركان الإيمان الستة، ومن جملتها الأصول الخمسة التي ذكرت في أواخر سورة البقرة فيمن يؤمن بها، وفي سورة النساء فيمن يكفر بها: ((وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا))[النساء:136] فذكر الإيمان باليوم الآخر، ونحن عندما نقول: إننا نؤمن باليوم الآخر فهو الإيمان بكل ما بعد الموت ابتداءً من رؤية الملائكة الموكلة بقبض الأرواح إلى عذاب القبر ونعيمه، إلى البعث والحشر، والصراط والميزان، والجنة والنار، وكل ما يكون من حال ذلك اليوم، فيدخل ذلك كله ضمن قولنا: اليوم الآخر، لكن قد يفصل بعض الناس بعض الإجمال كجعل أبي طالب المكي الجنة والنار أصلاً سابعاً، فقالوا: كأن الإيمان باليوم الآخر عنده هو البعث، والحشر، والنشور، والحساب، وغيره مما يتعلق به، ثم بعد ذلك الإيمان بالجنة والنار، فكأنه أصل آخر، وهو في الحقيقة تابع له، فليس في كلامه أمر جديد، لكن ذكرنا هذا توجيهاً لقوله وما أراد من كلامه، والتفصيل بعد الإجمال وارد.
    نقول: إن هذه الأصول الخمسة مجملة وكل منها له تفصيله: فالإيمان بالله يشمل الإيمان بأسمائه وصفاته وأفعاله... إلى آخر ذلك، والإيمان بالرسل يشمل الإيمان بهم وبأحوالهم وصفاتهم... إلى آخره، والإيمان بالملائكة يشمل الإيمان بأنواعهم وأصنافهم وأعمالهم وكل ما ورد فيهم، وهذا الذي ذكره هنا لعله أخذه من حديث عبادة بن الصامت المتفق عليه، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنة، وفي رواية: أدخله الله الجنة على ما كان من العمل} فذكر في هذا الحديث تفصيل بعض أمور الإيمان: كذكره للشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم زاد عليها: {وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه}، ولهذا قال بعض العلماء كما ذكر النووي رحمه الله: "إن هذا الحديث من أشمل الأحاديث في أصول الإيمان؛ لاشتماله على أصل العقيدة كلها، الذي لو آمن به الإنسان وأقر به كان متبرئاً من كل دين يخالف دين الإسلام" وذلك أنه إذا شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ أصبح من المسلمين، وزيادة على ذلك إذا أقر بأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فقد برئ من دين اليهود والنصارى؛ لأن اليهود قالوا عنه: إنه ابن زنا -والعياذ بالله- وقالوا: إن مريم -عياذاً بالله- زنى بها يوسف النجار ؛ فجاءت بعيسى، فلو أقر اليهودي بأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، مع إقراره بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقد برئ من دين اليهود.
    ويشار هنا إلى أن أهم قضية وقع فيها الخلاف بين أهل التوراة والإنجيل والقرآن هي مسألة المسيح، فاليهود يعتقدون أن عيسى ابن زنا، وقد رد الله عليهم اتهامهم لمريم عليها السلام بالزنا عندما رجعت إلى قومها وهي تحمله، قال تعالى: ((فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا))[مريم:29-30] فأنطق الله المولود وكذبهم في ذلك. وقوله: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ) فيه رد وتكذيب لقول النصارى القائلين أنه ابن الله؛ لأن النصارى قالوا: إن مريم لم تتزوج وأتاها هذا الولد وهو ينطق في المهد، ويأتي بالمعجزات والآيات فيحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص وغير ذلك، فهو ابن الله.
    فاليهود فرطوا وأنزلوه عن مستوى المؤمنين الصالحين وطعنوا فيه وفي أمه عليهما السلام، والنصارى أفرطوا وغلوا فيه حتى رفعوه عن درجة الملائكة والمرسلين إلى أن يكون هو الله.
    فإذا آمن العبد بالشهادتين، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه؛ فقد تبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام.
    والشاهد أن حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه هو أحد الأدلة على أركان الإيمان، ويصلح دليلاً لما ذكره أبو طالب من أن الأصول سبعة، ولا مشاحة في الاصطلاح، لكن الأولى أن نقف عند النص وأن نجعلها ستة كما في حديث جبريل، أو خمسة كما في القرآن، وهذه هي أصول الدين.